إنهم يستمعون لكل العالم !!!

طالما أصابنا الذهول، ونحن نقرأ روايات التجسس، أمام الإمكانيات التقنية والعلمية الهائلة والمعقدة التي يتخيلها كتّاب هذه الروايات والتي تستخدمها أجهزة المخابرات المختلفة وعملاؤها المشهورون، مثل العميل البريطاني المعروف "جيمس بوند" بطل روايات "أيان فلمنج".
ويبدو أن خيال رواة هذه القصص ظل محدودا بالنسبة للواقع الحقيقي، إذ لم يتجرأ أي منهم أن يتخيل مشروعا مثل "Echelon"، ذلك أن مهمة هذا المشروع الأمريكي البريطاني، وبكل بساطة، التصنت على كافة الاتصالات في مختلف أرجاء العالم، سواء كانت هذه الاتصالات عبر الهاتف، الفاكس، التليكس، الراديو أو الشبكات المعلوماتية، بواسطة مراكز التقاط أرضية وأقمار صناعية مزودة بآخر ما توصلت إليه التكنولوجيا من اكتشافات وتجهيزات فنية.
القصة .. قديمة !!
تبدأ القصة عام 1947، عندما عقدت الولايات المتحدة وبريطانيا اتفاقية سرية تسمح لكل بلد بالتجسس على سكان البلد الآخر، ثم يتبادل الطرفان المعلومات، وذلك للتلاعب على القوانين السائدة في كل من البلدين والتي تمنع أجهزة المخابرات من التجسس على سكان البلد الذي تنتمي إليه.
وتتولى هذه العملية، في الولايات المتحدة، "National Scurity Agency – NSA" أو "وكالة الأمن القومي"، وهي منظمة أنشأها الرئيس الأمريكي هاري ترومان عام 1952، ولم يعلن عن وجودها إلا عام 1957. تعتبر NSA من أكثر أجهزة التجسس الأميركية سرية، وتتمتع بتمويل يفوق وكالة المخابرات المركزية، حيث تبلغ ميزانيتها 17 مليار دولار.
كانت المهمة الرسمية التي حددتها الحكومة الأمريكية لل NSA في البداية تقتصر على التصنت على اتصالات أجهزة المخابرات الأجنبية وحماية اتصالات الأجهزة الأمريكية، قبل أن يوسع الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان هذه المهمة عام 1984 لتشمل التصنت على أنظمة المعلومات بشكل عام، بما في ذلك الاتصالات عبر شبكات المعلوماتية، وفي عام 1986 صدر قانون يكلف ال NSA بمساعدة وزارة الدفاع في العمليات القتالية.
وتوظف ال NSA أكبر عدد من المختصين في الرياضيات في العالم، وأفضل فرق المختصين في ابتكار وحل مختلف أنواع الشفرة، وهم قادرون على العمل بمائة لغة مختلفة، ويستخدمون آخر ما توصلت إليه التكنولوجيا الحديثة من أجهزة.
يعمل هذا العدد الكبير من المختصين وسط إجراءات أمن مشددة للغاية، حيث لا يحق لهم السفر والتنقل بدون إذن خاص، أو تلقي أي علاج طبي خارج إطار القسم الطبي التابع لل NSA لكي لا يتعرضوا لمحاولات التخدير، وإذا أراد أحد العاملين العزاب الزواج، يشجعه المسؤولون على اختيار زوج أو زوجة من العاملين في الوكالة، ويتمتعون، بطبيعة الحال، بصالات سينما ومسرح ومطاعم خاصة بالوكالة.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ قررت ال NSA إنشاء وكالة جديدة بالاشتراك مع وكالة المخابرات المركزية CIA، دون أن تعترف بوجودها، وتحمل اسم "قسم المجموعة الخاصة Special Collection Service "، وتتولى هذه الوكالة الجديدة الغير معترف بوجودها معالجة الرسائل ذات الشفرة المعقدة، مستخدمة لتحقيق هذا الغرض مختلف الوسائل، سواء العلمية والتقنية، أو الوسائل الأخرى التي يمكن أن توفرها وكالة المخابرات المركزية CIA.
كيف يتم ذلك ؟
تنتقل كافة المكالمات الهاتفية عبر الكابلات، وقد ثبت أن الغواصات الأمريكية ثبتت على الكابلات الممتدة في أعماق المحيط أنابيب ضخمة تحتوي على أجهزة متطورة لالتقاط كل كلمة (يوجد أحد أجهزة الالتقاط هذه في متحف المخابرات السوفيتية السابقة KGB التي تمكنت من الحصول عليه إثر خيانة أحد العملاء الأمريكيين)، ثم ينقل هذه المكالمات إلى مركز ال NSA حيث توجد أجهزة قادرة على القيام بعملية ترجمة آلية مباشرة من أكثر من مائة لغة. في حالة الكابلات المحمية، يتم الحصول على الإشارات عندما تصل إلى شركات الهاتف الأمريكية، التي تقوم بتزويد ال NSA بهذه الإشارات بشكل منتظم منذ سنوات طويلة.
ولا يحتاج الأمر بالنسبة لرسائل الراديو إلى أكثر من شبكة من الهوائيات، سواء الأرضية، أو هوائيات الأقمار الصناعية، والمعطيات التي تنتقل عبر الشبكات المعلوماتية، تمر كلها عبر الأراضي الأمريكية، ولا يشكل الحجم الهائل لهذه المعطيات مشكلة خاصة بالنسبة للتجهيزات التقنية المتقدمة التي تتمتع بها ال NSA.
تستخدم تقنيتان لاختيار الرسائل التي تستحق الدراسة وتحتوي على معلومات هامة من بين هذا الكم الهائل من الرسائل التي تنتقل عبر الهاتف والفاكس والتليكس والراديو والشبكات المعلوماتية.
تقنية قوائم الكلمات ذات الدلالة، حيث يتم تزويد أجهزة الكومبيوتر التي تعالج الرسائل بقائمة من الكلمات، لتقوم باحتجاز الرسائل التي تحتوي على هذه الكلمات، مما دفع بعدد من مستخدمي الإنترنت الغاضبين من مشروع "Echelon" للقيام بحملة، ساذجة بعض الشيء، تهدف لإغراق أجهزة المشروع بعدد كبير من الرسائل التي لا تحمل أي معلومات هامة ولكنها تحتوي على الكلمات الواردة في قوائم الكلمات ذات الدلالة.
التقنية الثانية أكثر تقدما بشكل كبير، حيث تقوم الأجهزة بتحليل مضمون الرسائل بشكل ذكي، وتعتبر هذه التقنية سرا حتى الآن، ذلك إن أجهزة الكومبيوتر التي تتمتع بها، من نوع خاص، تمت صناعتها في مصانع خاصة بال NSA، بحيث لاتنتقل هذه التقنية إلى عامة الناس.
من المستفيد ؟
لا تثير المكالمات الهاتفية للأشخاص العاديين اهتمام ال NSA، وإن كانت تقوم بتحليلها، وإنما تهتم الوكالة برسائل السفارات، أجهزة الدول المختلفة والشركات الكبرى.
وأثار اكتشاف مشروع "Echelon"، وقيام الولايات المتحدة بالاشتراك مع بريطانيا بالتصنت على اتصالات العالم، ثائرة النواب الأوروبيين بعد أن اطلعوا في 23 فبراير/شباط الماضي على نتائج التقرير الذي طلبته لجنة الحريات العامة في البرلمان الأوروبي من الصحفي الاسكتلندي دونكان كامبل، خاصة وأن عمليات التصنت لم تقتصر على القضايا الأمنية واتصالات الإرهابيين والمجرمين .. الخ، وإنما تركزت أغلب هذه العمليات على الرسائل ذات الطابع الاقتصادي، واتضح أن "Echelon" يستخدم، قبل كل شيء، كأداة للتجسس الاقتصادي لحساب وزارة التجارة الأمريكية وعدد من الشركات الأمريكية والبريطانية الكبرى التي تدعم أنشطة المشروع وأجهزة المخابرات في البلدين.
واشنطن ولندن رفضتا، في البداية، الاعتراف بوجود مشروع "Echelon"، حتى اعترف جيمس وولسي المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية CIA بأن حكومة بلاده تمارس التجسس الاقتصادي على حلفائها، وخاصة في أوروبا، وأقر بوجود "Echelon".
منذ 1977 أنشأت وكالة المخابرات المركزية CIA ووكالة الأمن القومي NSA ووزارة التجارة الأمريكية هيئة مشتركة تحمل اسم "مكتب الاتصالات الاستخبارية"، ثم تم تغيير اسمه عام 1993 ليصبح "مكتب الدعم التنفيذي"، وتتلخص مهمته في نقل كافة المعلومات التي حصلت عليها ال NSA، والتي تكتسب أهمية اقتصادية خاصة (تفاصيل المفاوضات حول عقود كبيرة .. الخ) إلى وزارة التجارة الأمريكية التي تحتفظ لنفسها باستخدام هذه المعلومات كما تشاء لخدمة مصالح الشركات الأمريكية. ويشير تقرير كامبل إلى أمثلة محددة مثل خسارة شركة طومسون الفرنسية لعقد بلغت قيمته 3ر1 مليار دولار لإقامة نظام مراقبة لغابات الأمازون في البرازيل، وذلك لصالح شركة رايتيون الأمريكية، وهي أحد موردي ال NSA. وفي 1994 خسرت شركة ايربوص الأوروبية عقدا سعوديا قيمته 6 مليارات دولار لصالح شركة بوينج / ماك دونالد، وهي بدورها أحد الموردين الرسميين لل NSA.
الطريف في هذه القضية، هو أن تقرير كامبل أثار ضجة هائلة في أوروبا لدى صدوره، وتبارت الصحف ووسائل الإعلام في عرض التقرير ونقاش تفاصيل القضية، قبل أن يسود صمت مطبق حول مشروع "Echelon" بعد بضعة أسابيع.

شكر خاص للأستاذ: رضا

مشكور